فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ أبو مجلز، ولاحق بن حميد {فَلاَ ينازعنك} بكسر الزاي على أنه من النزع بمعنى الجذب كما في البحر، والمعنى كما قال ابن جني فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم فتكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره.
وفي الكشاف أن المعنى أثبت في دينك ثباتًا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه، والمراد زيادة التثبيت له عليه الصلاة والسلام بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله تعالى ولدينه ومثله كثير في القرآن.
وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه أي غلبته، فالمعنى لا يغلبنك في المنازعة والمراد بها منازعة الجدال يعني أن ذلك من باب المغالبة، لَكِن أنت تعلم أنها عند الجمهور تقال في كل فعل فاعلته ففعلته أفعله بضم العين ولا تكسر إلا شذوذًا، وزعم الكسائي ورده العلماء أن ما كان عينه أو لامه حرف حلق لا يضم بل يترك على ما كان عليه فيكون ما هنا على توجيه الزجاج شاذًا عند الجمهور.
وقال سيبويه: كما في المفصل وليس في كل شيء يكون هذا أي باب المغالبة ألا ترى أنك تقول: نازعني فنزعته استغنى عنه بغلبته، ثم إن المراد من لا يغلبنك في المنازعة لا تقصر في منازعتهم حتى يغلبوك فيها، وفيه مبالغة في التثبيت فليس هناك نهى له صلى الله عليه وسلم عن فعل غيره، هذا وما ذكرنا من تفسير المنسك بالشريعة هو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره القفال، وقال الإمام: هو الأقرب، وقيل: هو مصدر بمعنى النسك أي العبادة، قال ابن عطية: يعطي ذلك {هُمْ نَاسِكُوهُ} وقيل: هو اسم زمان، وقيل: اسم مكان، وكان الظاهر ناسكون فيه إلا أنه اتسع في ذلك، وقال مجاهد: هو الذبح.
وأخرج ذلك الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهما؛ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعبد بن حميد عن عكرمة، وجعل ضمير {ينازعنك} للمشركين، والأمر المتنازع فيه أمر الذبائح لما ذكر من أن الآية نزلت بسبب قول الخزاعيين بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، ويزيد بن خنيس للمؤمنين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله تعالى.
ومنهم من اقتصر على جعل محل النزاع أمر النسائك وجعله عبارة عن قول الخزاعيين المذكور.
وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلًا كيف لا وأنه يستدعي أن يكون أكل الميتة وسائر ما يدين به المشركون من الأباطيل من المناسك التي جعلها الله تعالى لبعض الأمم ولا يرتاب في بطلانه عاقل.
وأجيب بأن المعنى عليه لا ينازعنك المشركون في أمر النسائك فإنه لكل أمة شريعة شرعناها وأعلمناك بها فكيف ينازعون بما ليس له عين ولا أثر فيها، وقيل: المعنى عليه لا تلتفت إلى نزاع المشركين في أمر الذبائح فإنا جعلنا لكل أمة من أهل الأديان ذبحاهم ذابحوه.
وحاصله لا تلتفت إلى ذلك فإن الذبح شرع قديم للأمم غير مختص بأمتك وهذا مما لا شك في صحته، ومن قال بصحة الآثار وعض عليها بالنواجذ لا يكاد يجد أولى منه في بيان حاصل الآية على ما تقتضيه، ومن لم يكن كذلك ورأى أن الآية متى احتملت معنى جزلًا لا محذور فيه قيل به وإن لم يذكره أحد من السلف فعليه بما ذكرناه أولًا في تفسير الآية، وأيًّا ما كان فالظاهر أنه إنما لم تعطف هذه الجملة كما عطف قوله تعالى: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ} [الحج: 34] الخ لضعف الجامع بينها وبين ما تقدمها من الآيات بخلاف ذلك.
وفي الكشف بيانًا لكلام الكشاف في توجيه العطف هناك وتركه هنا أن الجامع هناك قوي مقتض للعطف فإن قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا} [الحج: 33] أي في الشعائر منافع دينية ودنيوية كوجوب نحرها منتهية إلى البيت العتيق كالإعادة لما في قوله تعالى: {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ معلومات} [الحج: 28] إلا أن فيه تخصيصًا بالمخاطبين فعطف عليه {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} [الحج: 34] للذكر لتتم الإعادة والغرض من هذا الأسلوب أن يبين أنه شرع قديم وأنه لم يزل متضمنًا لمنافع جليلة في الدارين، وأما فيما نحن فيه فأين حديث النسائك من حديث تعداد الآيات والنعم الدالة على كمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ولعمري أن شرعية النسائك لكل أمة وإن كانت من الرحمة والنعمة لَكِن النظر إلى المجانسة بين النعم وما سيق له الكلام فالحالة مقتضية للقطع، وذكره هاهنا لهذه المناسبة على نحو خفي ضيق اهـ. وهو حسن وظاهره تفسير النسك بالذبح.
وذكر الطيبي أن ما تقدم عطف على قوله تعالى: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} [الحج: 32] الخ وهو من تتمة الكلام مع المؤمنين أي الأمر ذلك والمطلوب تعظيم شعائر الله تعالى وليس هذا مما يختص بكم إذ كل أمة مخصوصة بنسك وعبادة.
وهذه الآية مقدمة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما يوجب نزاع القوم تسلية له وتعظيم لأمره حيث جعل أمره منسكًا ودينًا يعني شأنك وشأن أمثالك من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ترك المنازعة مع الجهال وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى النزاع وملازمة الدعوة إلى التوحيد أو لكل أمة من الأمم الخالية المعاندة جعلنا طريقًا ودينًا هم ناسكوه فلا ينازعنك هؤلاء المجادلة.
سمي دأبهم نسكًا لإيجابهم ذلك على أنفسهم واستمرارهم عليه تهكمًا بهم ومسلاة لرسوله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم، وأما اتصاله بما سبق من الآيات فإن قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ في مِرْيَةٍ مّنْهُ} [الحج: 55] يوجب القلع عن إنذار القوم والإياس منهم ومتاركتهم والآيات المتخللة كالتأكيد لمعنى التسلية فجىء بقوله تعالى: {لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هم نَاسِكُوهُ فَلاَ ينازعنك} تحريضًا له عليه الصلاة والسلام على التأسي بالأنبياء السالفة في متاركة القوم والإمساك عن مجادلتهم بعد الإياس من إيمانهم وينصره قوله تعالى: {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} [الحج: 69] فالربط على طريقة الاستئناف وهو أقوى من الربط اللفظي.
والذي يدور عليه قطب هذه السورة الكريمة الكلام في مجادلة القوم ومعانديهم والنعي عليهم بشدة شكيمتهم ألا ترى كيف افتتحها بقوله سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله} [الحج: 3] وكررها وجعلها أصلًا للمعنى المهتم به وكلما شرع في أمر كر إليه تثبيتًا لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم ومسلاة لصدره الشريف عليه الصلاة والسلام فلا يقال: إن هذه الآية واقعة مع أباعد عن معناها انتهى، ولعمري أنه أبعد عن ربوع التحقيق وفسر الآية الكريمة بما لا يليق.
وقد تعقب في الكشف اتصاله بما ذكر بأنه لا وجه له فقد تخلل ما لا يصلح لتأكيد معنى التسلية المذكورة أعني قوله تعالى: {وَمَنْ عَاقَبَ} [الحج: 60] الآيات لاسيما على ما آثره من جعلها في المقاتلين في الشهر الحرام ولو سلم فلا مدخل للاستئناف وهو تمهيد لما بعده أعني قوله تعالى: {فَلاَ ينازعنك} الخ، وأما قوله والذي يدور عليه الخ فهو مسلم وهو عليه لا له فتأمل والله تعالى الموفق للصواب.
{وادع} أي وادع هؤلاء المنازعين أو الناس كافة على أنهم داخلون فيهم دخولًا أوليًّا {إلى رَبّكَ} إلى توحيده وعبادته حسبما بين في منسكهم وشريعتهم {إِنَّكَ لعلى هُدًى} أي طريق موصل إلى الحق ففيه استعارة مكنية وتخييليتها على، وقوله تعالى: {مُّسْتَقِيمٍ} أي سوي أو أحدهما تخييل والآخر ترشيح، ثم المراد بهذا الطريق إما الدين والشريعة أو أدلتها، والجملة استئناف في موضوع التعليل.
{وَإِن جادلوك} في أمر الدين وقد ظهر الحق ولزمت الحجة {فَقُلْ} لهم على سبيل الوعيد {الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأباطيل التي من جملتها المجادلة فمجازيكم عليها، وهذا إن أريد به الموادعة كما جزم به أبو حيان فهو منسوخ بآية القتال.
{الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} تسلية له صلى الله عليه وسلم؛ والخطاب عام للفريقين المؤمنين والكافرين وليس مخصوصًا بالكافرين كالذي قبله ولا داخلًا في حيز القول، وجوز أن يكون داخلًا فيه على التغليب أي الله يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين {يَوْمُ القيامة} بالثواب والعقاب كما فصل في الدنيا بثبوت حجج المحق دون المبطل {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي من أمر الدين، وقيل الجدال والاختلاف في أمر الذبائح، ومعنى الاختلاف ذهاب كل إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر. اهـ.

.قال القاسمي:

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا} أي: وضعنا: {مَنْسَكًا} أي: شريعة ومتعبدًا: {هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي: في ذلك الجعل والوضع والحوار في تنوعه في كل أمة، وعدم وحدته، أو في أمر ما جئتهم به، زعما بأنه يستغني عنه بما شرع قبله. لأنه جهل بحكمته تعالى في تكوين الأمم وتربيتها بالشرائع المناسبة لزمنها ومكانها، وحياتها ومنشيءها. ولذلك كانت هذه الشريعة أهدى الشرائع للامتنان بها، حينما بلغ الإنسان أعلى طور الرشد ولذلك وجبت الدعوة إليها خاصة كما قال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} أي: اثبت على دينك ثباتًا لا يطمعون أن يخدعوك عنه. أو معناه: ثابر على الدعوة إلى ما أمرت به. فلا تضرك منازعتهم. وعلى الكل اتباعك وعدم مخالفتك، لاستقرار الأمر على شرعتك. لأنها الطريق القويم.
هذا، وقال ابن جرير: أصل المنسك في كلام العرب، الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، لخير أو شر. يقال: إن لفلان منسكًا يعتاده، يراد مكانًا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وقد اختلف أهل التأويل في معنى النسك هنا، فقيل: عيدًا. وقيل: إراقة الدم ثم استظهر أن المعنى إراقة الدم أيام النحر بمنى. لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت إراقة الدم في هذه الأيام، أي: فلا ينازعك هؤلاء المشركون في ذبحك ومنسكك بقولهم: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله؟ انتهى.
وعليه، فيكون المراد بالجعل في قوله تعالى: {جَعَلْنْا} الجعل القدريّ لا التشريعيّ. كما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، أي: هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وأرادته. فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق. وهذا كقوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إذ إنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص: 87]، أشار له ابن كثير. ونقل الرازيّ عن ابن عباس، في رواية عطاء، أن المراد بالمنسك: الشريعة المنهاج. قال: وهو اختيار القفال، لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وهو الذي آثرناه أولًا لظهوره فيه. والله أعلم.
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي: من أمر الدين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هم نَاسِكُوهُ}.
هذا متصل في المعنى بقوله: {ولكل أمة جعلنا منسكًا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم} [الحج: 34] الآية.
وقد فُصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله: {وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا} [الحج: 37-38] إلى هنا، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكًا ليذكروا اسم الله} [الحج: 34] الآية ليبنى عليه قوله: {فلا ينازعنك في الأمر}.
فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا مَنسكًا واحدًا يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد.
وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعُزّى، قال النّابغة:
وما هريق على الأنصاب من جَسَد

أي دم.
وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكًا ليذكُروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا} [الحج: 34] كما تقدم آنفًا.
فالجملة استئناف.
والمناسبة ظاهرة ولذلك فُصلت الجملة ولم تعْطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة.
والمنسَك بفتح الميم وفتح السين: اسم مكان النّسُك بضمهما كما تقدّم.
وأصل النُّسك العبادة ويطلق على القربان، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان.
والضمير في {ناسكوه} منصوب على نزع الخافض، أي ناسكون فيه.
وفي الموطأ: أن قريشًا كانت تقف عند المَشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعَرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله تعالى: {لكل أمة جعلنا منسكًا هم ناسكوه} الآية، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم. اهـ.
قال الباجي في المنتقى: وهو قول ربيعة.
وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه، أي نزلت في سنة تسع، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة.
وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما أعطيه من الحجج كاففٍ في قطع منازعة معارضيه، فالمعارضون هم المقصود بالنهي، ولَكِن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج وُجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل: فلا تترك لهم ما ينازعونك به، وهو من باب قول العرب: لا أعْرِفَنّك تفعل كذا، أي لا تَفْعل فأعرِفك، فجعل المتكلم النهي موجهًا إلى نفسه، والمراد نهي السامع عن أسبابه، وهو نهي للغير بطريق الَكِناية.
وقال الزجاج: هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله، فيصحّ نهي كل من الجانبين عنه.
وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعته إياهم التي تفضي إلى منازعتهم إياه فيكون النهي عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله.
وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعدما سيق لهم من الحجج.
واسم {الأمر} هنا مجمل مراد به التوحيدُ بالقرينة، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملّة إبراهيم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر الحَجّ الذي هو من مناسكهم، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملّة إبراهيم، فكان قوله تعالى: {لكل أمة جعلنا منسكًا هم ناسكوه} كشفًا لشبهتهم بأن الحج منسك حقّ، وهو رمز التوحيد، وأن ما عداه باطل طارىء عليه فلا ينازعُنّ في أمر الحجّ بعد هذا.
وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله: {وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير} [الحج: 72]، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مُقام النبي صلى الله عليه وسلم بها وبالمدينة في أول مُقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ، فيبعد تفسيرُ المنازعة بمنازعة أهل الكتاب.
وقوله: {وادع إلى ربك} عطف على جملة {فلا ينازعنك في الأمر}.
عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمرٌ بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجّة لأن المُكابرة تجافي الاقتناع، ولأنّ في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين، وفي حذف مفعول {ادع} إيذان بالتعميم.
وجملة {إنك لعلى هدى مستقيم} تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لردّ الشك.
و{على} مستعارة للتمكن من الهدى.
ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية؛ شبه الهُدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورُمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالًا، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان.
وفي هذا الخبر تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة.
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)} عطف على جملة {فلا ينازعنك في الأمر} [الحج: 67].
والمعنى: إن تبيّن عدم اقتناعهم بالأدلة التي تقطع المنازعة وأبوا إلا دوام المجادلة تشغيبًا واستهزاء فقل: الله أعلم بما تعملون.
وفي قوله: {الله أعلم بما تعملون} تفويض أمرهم إلى الله تعالى، وهو كناية عن قطع المجادلة معهم، وإدماج بتعريض بالوعيد والإنذار بكلام موجّه صالح لما يتظاهرون به من تطلب الحجّة: ولما في نفوسهم من إبطان العناد كقوله تعالى: {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} [السجدة: 30].
والمراد بـ {ما تعملون} ما يعملونه من أنواع المعارضة والمجادلة بالباطل ليُدحضوا به الحق وغير ذلك.
وجملة {الله يحكم بينكم يوم القيامة} كلام مستأنف ليس من المقول، فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وليس خطابًا للمشركين بقرينة قوله: {بينكم} والمقصود تأييد الرسول والمؤمنين.
وما كانوا فيه يختلفون: هو ما عبر عنه بالأمر في قوله: {فلا ينازعنك في الأمر} [الحج: 67]. اهـ.